غداً نلقى الأحبة
يعيش الإنسان في هذه الحياة بين ألم وأمل، ومنحة ومحنة، وسعادة وشقاء.. هذه طبيعة الحياة، وهكذا تكون رحلة البشر فيها، ومن ثم يجد الحصيف نفسه وقد وقف موقف المتأمل على أعتاب هذه الدنيا لينظر إلى الماضي فيبصر كم سبقنا فيه من عصور، وينظر إلى المستقبل فيوقن أنه ستعقبنا فيه أجيال، وهنا يسائل الإنسان نفسه ما نسبة هذا العمر المحدود بين ما سبقه وما لحقه من أزمنة وأجيال؟
الإجابة المؤكدة أن هذا العمر لزمن قليل، ونزر يسير. بيد أن هذا القليل الممنوح للإنسان هو الذي يكوّن الحياة. وفى طريق الحياة الممتد من الماضي إلى الحاضر تجري أجيال البشر، ولا يزال يهرول الإنسان في طريقه حتى ينال منه النصب والتعب، ثم تكون النهاية.
ثم يأتي خَلَف عقب سلف تجري الأقدار عليهم، كما جرت على الذين من قبلهم، وهكذا تكون الحياة عملاً متواصلاً، وطريقاً طويلاً من أنفاس لاهثة، وأعمار متقطعة. وصدق الله إذ يقول « لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ»البلد 4. ويأخذك العجب من أمر الإنسان عندما يغيب عن ذهنه أنه حلقة من سلسلة متقطعة موصولة بالأمس، وممتدة مع الغد، فينفث في نفسه الغرور مخيلاً إليه أنه كائن يضرب بجذوره في الأزل، وسيبقى إلى الأبد. هنا يأتيه اليقين متمثلاً في الموت وشدته فيدهش لمقدمه وكأنه حدث غريب لم يتصور له وقوعاً في يوم من الأيام، غير أنه لا يغني حذر من قدر، ولا تدفع الدهشة اليقين. وهكذا يودع الإنسان الحياة.
ولئن كانت الحياة على ظهر الأرض بهذه المثابة تصبح الحياة التي تليها هي الحق الذي لا مرية فيه، وهي الحياة التي يترقب فيها الإنسان الأمل، ويكون الحصيف هو ذلك الإنسان الذي يوزع اهتمامه على الدارين كلتيهما، فيجعل عمله للدنيا بقدر مقامه فيها، وعمله للآخرة بقدر بقائه فيها. يقول الحق سبحانه وتعالى «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» القصص 77.
من هذا المنطلق رغب الناس جميعاً في الأبدية والخلود حتى صار ذلك أملاً حلواً زاد التعلق به، فخلعوا عليه لباس الحقيقة، وخيال عذب طاب لهم أن يسبحوا وراءه حتى اكتسى لديهم برداء الواقع، وغيب شغفوا بالبحث عنه حتى كادوا أن يبرزوه في مظهر الحاضر، وسلوة تسلى بها البؤساء عن الحرمان وسوء الطالع. إذن تمثل الرغبة في الخلود عوناً على الحياة، وامتداداً لها، ونصيراً على ما فيها من بؤس وشقاء وآلام وويلات، ووصلة لأجَل وإن طال قصير، وعيش وإن ساء مرغوب فيه. ولربما كان شغف الإنسان بالحياة أول ملهم له بتجددها، ولربما كانت غريزة الاحتفاظ بها أول دافع للقول باستئنافها حتى صور الإنسان هذا الاستئناف بألوان شتى، وصور متباينة هي في جملتها صدى لما يأمله، وانعكاس لما يكابده ويحياه، فمثلاً تصور الهمجيون الذين يعيشون عيشة السلب وسفك الدماء أن الحياة الآخرة تمثل عودة للإنسان في هيئة مارد جبار يثأر لنفسه ممن تعدى عليه. وظن بعض المتحضرين الحياة الآخرة ضرباً من اليقظة يرفل فيها الإنسان في حلل السعادة، ومباهج النعيم، ومن ثم أعدوا في قبورهم صنوف الزخارف والزينة، ولذيذ الطعام والشراب.
وبين هؤلاء وأولئك أتى الإسلام بعقيدته معقباً ومهيمناً ليبين أن الخلود في حقيقته فكرة مؤسسة على ثقة الإنسان في عدل الله سبحانه وتعالى الذي قال وقوله الحق « وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ «الأنبياء 47. وحينئذ يكون النداء: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. بيد أن خلود أهل الجنة في ظل ضمانات إلهية، ووعود ربانية بصنوف النعيم المادي والنفسي، من ذلك الأمن الروحي والاطمئنان النفسي في جنة عرضها السموات والأرض حتى لهج لسان المؤمن بالحمد والثناء لربه قائلاً»الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ» فاطر: 34-35 .
وفوق ذلك يكون النعيم المادي الذي يتفضل به الباري سبحانه على الإنسان وفق مشيئته فيكون على حسب مراده، وفوق تصورات الإنسان ومدركاته. يقول سبحانه وتعالى «لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ» ق: 35.وفوق ذلك كله لا يهنأ نعيم للإنسان ولا يطيب له مقام في هذه الحياة الأبدية إلا إذا جمعه الله تعالى بمن أحب في الدنيا.
يأتي رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله ادعُ الله لي أن أكون من أهل الجنة. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟. فيقول: والله يا رسول الله ما أعددت لها كثير صيام ولا كثير صلاة، ولكني أحب الله ورسوله. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: « أنت مع من أحببت». ويأتي النبأ للخنساء رضي الله عنها يحمل لها فقدان الأحبة من الأبناء في معركة القادسية فتجد في أبدية الخلود في جنة عرضها السموات والأرض سلوى عن مرارة النبأ وهول المصاب، فتقول: الحمد لله الذي شرفني بهم وإني لأرجو أن يجمعني الله بهم في مستقر رحمته. ولعل هذا هو ما أمله بلال رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة ، فقالت زوجته: واحزناه. فقال لها بلال: بل قولي: وافرحاه، فغداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
د. محمد عبدالرحيم البيومي
كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات